كيف إنتقلت اللغة من كوردستان الى الشعوب الناطقة باللغات الهندوأوروپية؟

مهدي كاكەيي

إستغرق وصول الزراعة من كوردستان الى أوروپا والهند من حوالي 3500 سنة الى 4000 سنة. خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة، قد تكون اللغة إنتقلت مع مهنة الزراعة بِثلاث طرق:

1. لا شك إنّ إبتكار الزراعة من قِبل سكان كوردستان، خلق ثورة كبرى في حياة الإنسان، حيث إنتقل الإنسان من حياة الصيد الى حياة زراعة المحاصيل الزراعية ومن حياة الترحال والتنقل من مكان الى آخر لغرض الصيد للحصول على قوته اليومي، الى بناء المساكن والإستقرار في أماكن ثابتة والإعتماد على الزراعة وتربية المواشي في الحصول على الغذاء. لذلك أصبحت الزراعة المصدر الرئيسي لغذاء الإنسان ولِملبسه. هكذا يكون قد عمل سكان المناطق المجاورة لِمنطقة مُبتكري الزراعة في تعلّم مهنة الزراعة من السكان المُلمّين بالزراعة وحصل إختلاط بين هؤلاء الناس وبذلك إنتقلت لغة المزارعين الى سكان المناطق الذين تعلموا مهنة الزراعة. هكذا إنتقلت اللغة مع الزراعة من السكان الذين تعلموا الزراعة وأصبحوا مزارعين جدد الى سكان المناطق المجاورة لهم، فيكون قد إستمر إنتقال اللغة مع الزراعة بهذه الطريقة ووصلت الى أوروپا والهند وغيرها من مناطق الناطقين الحاليين باللغات الهندوأوروبية بعد حوالي 3500 سنة الى 4000 سنة.

2. نتيجة النمو السكاني والحروب والظروف المناخية السيئة وغيرها من العوامل، يكون قسم من سكان كوردستان قد إنتقلوا وهاجروا الى المناطق المجاورة أو البعيدة، حاملين معهم علوم الزراعة ولغتهم وأصبحت لغة سائدة في المناطق التي إستقروا فيها، حيث يكونون أكثر تطوراً ثقافياً ولغوياً وحضارياً من السكان الأصليين لتلك المناطق، فهيمنت لغتهم وثقافتهم المتطورة على اللغات والثقافات المتخلفة لتلك الشعوب. أثبتت الدراسات المعاصرة أن قسماً من المزارعين الكورد هاجروا من كوردستان الى أوروپا في حوالي سنة 4000 قبل الميلاد ونشروا هناك مهنة الزراعة ونقلوا أيضاً لغتهم الى موطنهم الجديد، كما جاء في بحثٍ منشورٍ في المجلة العلمية (نَيچر إيكولوجي آند إيڤوليوشن Nature Ecology and Evolution)، أثبت فيه العلماء عن طريق فحص الحمض النووي المستخرج من بقايا الأشخاص المهاجرين من كوردستان الى إنگلترا، في موقع “ستونهينج” الأثري الواقع في جنوب غرب إنگلترا، أن أسلاف الشعب الكوردي الذين بنوا هذا الموقع الأثري، قد سافروا من إقليم شمال كوردستان غرباً عبر البحر الأبيض المتوسط قبل الوصول إلى بريطانيا.

3. إنتقال جماعات سكانية الى كوردستان من المناطق المجاورة لتعلّم الزراعة من سكان كوردستان والعيش هناك والتمتع بِحياة الرفاهية فيها. خلال مكوثهم في كوردستان يكونون قد أتقنوا لغة سكان كوردستان التي كانت لغة متطورة بسبب ظهور الزراعة والصناعة وتربية المواشي فيها، مقارنةً بلغات شعوب المناطق الأخرى وبعد ذلك يكونون قد إنتقلوا الى بلدانهم الأصلية أو بلدان أخرى ونشروا فيها كلاً من مهنة الزراعة ولغة سكان كوردستان.

هنا يبرز سؤال وهو: لماذا إكتسب السكان الذين كانوا يمتهنون الصيد، لغة سكان المزارعين ولم يحصل العكس؟ للجواب على هذا السؤال نقول بأنّ اللغة مرتبطة بالحضارة، فاللغة تتطور مع تطور الحضارة وكلما كان المجتمع متطوراً، كلما تكون اللغة متطورة بمفرداتها وقواعدها، حيث أنّ متطلبات التطور الحضاري في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها، تحتاج الى إيجاد كلمات جديدة وتطوير قواعد اللغة لتستطيع مواكبة التطور والتقدم الحاصلَين في مختلف مجالات الحياة. لذلك نرى لغة سكان المناطق التي تنشأ فيها الحضارة، هي أغنى وأكثر تطوراً من المناطق غير الحضارية، على سبيل المثال لغة سكان المناطق التي تتوفر فيها مصادر المياه التي هي إحدى أهم مقومات قيام الحضارات، هي أكثر تطوراً من لغة سكان المناطق الصحراوية التي لا تتوفر فيها مقومات الحضارة. في كوردستان، عندما تمّ إبتكار الزراعة، تطورت اللغة مع ظهور الزراعة لأنّه مع الزراعة، كان على الإنسان إيجاد أسماء لمختلف الأشياء الجديدة التي ظهرت في حياته، للتمييز بينها، مثل المحاصيل الزراعية والنباتات والأشجار والحيوانات الداجنة والطيور والحشرات وأدوات الزراعة وأنواع التُرب الزراعية والآفات الزراعية ووسائل ومواد مكافحتها ومواد البناء والأدوات المنزلية الجديدة المبتكرة وغيرها من الأشياء الكثيرة الأخرى التي أصبحت جزءاً من حياة الإنسان. على سبيل المثال، كان العرب يعيشون في الصحراء التي لا مقومات الحضارة فيها، لذلك كانت لغتهم فقيرة وعندما إحتلوا بلداناً أخرى ذات حضارات، مثل كوردستان، إقتبسوا الكثير من مفردات لغات شعوب تلك البلدان الحضارية، ذات اللغات المتطورة. لهذا السبب نرى إقتباس العرب لمئات الكلمات الكوردية التي يظن المرء بأنّ الكورد قد إقتبسوها من العرب نتيجة هيمنة العرب على مقاليد الحُكم في تلك البلدان وإفتقار الكورد لِكيان سياسي. من تلك الكلمات الكوردية المُقتبسة من قِبل العرب، على سبيل المثال: شمس، سماء، ثورة، جبل، شعر، جمع ومشتقاته، صابون، دستور، جمهور، جزية، هندسة، نموذج، ساذج، دست، حرف، بريد، عسکر، قلم، دفتر، تاريخ، وزير، فردوس، جهنم، سراط، مسجد، جولق، ديزج، ديوان، بيادة، شمع، برق، أستاذ، فولاذ، بابوج، خانة، خزانة، دولاب، ورق، کهرباء، فن، خندق، طعم، مرشّة ومئات الكلمات الأخرى.

قد يكون موقع (نیڤالی چوری Nevalı Çori) الواقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات في منطقة أورفة الواقعة في إقليم شمال كوردستان، أحد المستوطنات البشرية التي إنتقلت منها اللغة الى شعوب البلدان التي تتكلم اللغات الهندوأوروپية في وقتنا الحاضر، حيث أنّ هذا الموقع هو موقع قديم يعود الى العصر الحجري، إلى الألفيتَين العاشرة والتاسعة قبل الميلاد، أي أنّ الإنسان عاش في هذا المستوطن البشري قبل حوالي 11 ألف و 12 ألف سنة. في هذا المستوطن البشري، تمّ العثور على العديد من الأدوات والأواني الحجرية من قِبل بعثة ألمانية من جامعة (هيدلبيرگ Heidelberg) بقيادة الپروفيسور (هارالد هوبتمَنHarald Hauptmann )، التي قامت بالتنقيب عن الآثار في هذا الموقع خلال الفترة الزمنية الممتدة بين سنة 1983 و سنة 1991 ميلادية. إكتشفت البعثة آثار إستيطان بشري مُهم في هذا الموقع، من ضمنها بيوت كبيرة (6×14 متر) مبنية من الحجر وعلى خط واحد، وهناك بيتان دائريان بِقُطر 12 متر، ظهرت منهما بقايا الأعمدة التي حملت السقف. أهم هذه البيوت هي بيتان شُيّدا على مرحلتين متتاليتين، يتألف كل منهما من غرفة واحدة مربعة ضلعها 9 متر، جدرانها من الحجر وأرضها مطلية بالكلس، في داخلها وعلى إمتداد الجدار مصاطب جلوس، وفي صدرها مقابل درج الدخول محراب، وعلى محيط الغرفة الداخلي ووسطها تنتصب مجموعة من الأعمدة الحجرية الكبيرة والمؤلفة من قطعة واحدة، يحمل أحدها نحتاً بشريا ً(أيادي بشرية) بإرتفاع مترَين. عُثر في البيت على منحوتات حجرية كبيرة تُمثّل أشكالاً بشرية (رأس وصدر) و أشكالاً حيوانية ومخلوقات غريبة متراكمة فوق بعضها، كل ذلك يشير إلى أن للبناء وظيفة دينية تجعل منه أقدم المعابد المعروفة في شمال كوردستان، كما عُثر في الموقع على مجموعة من الجماجم البشرية المفصولة عن أجسادها، والهياكل العظمية، من بينها هيكل امرأة يبدو أنها قُتلت بِسهم حجري، وهناك أدوات حجرية، خاصة رؤوس سِهام كبيرة وأواني حجرية وغيرها. هذه الآثار تُشير بِوضوح الى التقدم الحضاري الكبير الذي حقّقه الإنسان في تلك المنطقة خلال تلك الحقبة الزمنية القديمة والذي إنتقل الى مناطق أخرى وإنتقلت الزراعة واللغة معه.

Website | + posts